You are here

التربية على طريقة نيتشه

المصدر: 
المركز الفلسطيني للإرشاد
الناشر: 
يحيى حجازي
متى سنتخلص من قلة إيماننا بقدرات أبنائنا؟ متى سنفهم بأن مستقبل أطفالنا أكثر أهمية من الماضي؟ متى سنستطيع التفريق بين التربية الحقيقية وما شابه التربية؟ متى سنعمل على إزاحة العقبات بين المدرسة وبين المجتمع والحياة كاسبي (من التربية غدا)

متى سنتخلص من قلة إيماننا بقدرات أبنائنا؟ متى سنفهم بأن مستقبل أطفالنا أكثر أهمية من الماضي؟ متى سنستطيع التفريق بين التربية الحقيقية وما شابه التربية؟ متى سنعمل على إزاحة العقبات بين المدرسة وبين المجتمع والحياة كاسبي (من التربية غدا)

مقدمة

سيتم التطرق في هذه المقالة إلى إبراز وجه آخر للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الذي أبدع في مجال الفلسفة، حيث كان له عميق الأثر في العقل الأوروبي بشكل عام بمجالي الفلسفة والتربية.

فريدريك نيتشة، فيلسوف الحقيقة المطلقة. ذلك الشخص الذي أبى أن يتقبل قدره الصعب الذي حاول تدمير قواه بسبب المرض الذي ألم به، مطلقاً العنان لإرادته في تسيير حياته والتحكم بها تحكم النفس على الجسد. لم يؤمن قط بأن الشخص الذي يمثل القوة والعظمة شخص بعيد عنه، أو من صنع خيال لا يمت بصلة إلى الواقع، وإنما آمن دائماً بأن العظمة هي بنت المحبة المتناهية، والتي من خلالها فقط نستطيع الوصول إلى الكمال والإبداع.

لم يكن نيتشة أول من اقترح وناقش فكرة الكمال الإنساني، كما يعتقد البعض. حيث أن هذه الفكرة انبثقت ونوقشت في الديانات المختلفة قبل آلاف السنين. ولكن عندما تحدثت الديانات عن الكمال قصدوا الكمال الروحي، بينما الكمال الذي قصده نيتشة يتخطى المفاهيم  المحسوسة، حيث مبتغاه هنا في مفهومه للكمال كان إطلاق العنان للعظمة الإنسانية ابتغاء تحويل هذه البسيطة إلى جنة عدن.

الكثيرون منا تعرف على هذا الفيلسوف من زوايا مختلفة، تتناقض أحياناً، مكملة بعضها البعض أحياناً أخرى. فقد فهم البعض -على سبيل المثال- مفهوم " قوة التسامي" الذي كان أحد دعائم فلسفته والذي ذكر في الكثير من كتاباته، بأنه مصدر العدوانية السلبية الطبيعي الموجود في تركيبة كل إنسان، بينما رأى البعض الأخر "قوة التسامي" كتعالي الإنسان على غرائزه درجات، وكارتقائه فوق مسلمات الإيديولوجيات والثقافات التي تعمل على تقييد وتحجيم قدرته على الخلق والإبداع، ونزعته الطبيعية للتطور.

يرى نيتشة الفرد طاقة غريزية خلاقة بقوة الإرادة، والتي تخاف من التعبير عن ذاتها وعن خصوصيتها، فتختار الشكل العام والمقبول تحت مظلة الإيديولوجية والمسلمات. فالجهاز التربوي مثلاً، ذلك الجهاز الرسمي الذي يرضع طلابه المعتقدات الإيديولوجية للدولة، يعمل على كبح جماح الفرد، فلا يعبر الا عما هو مقبول ومشترك، وليس عما هو خاص. هذا الصراع بين الفرد والمجتمع يتأصل في الصراع بين النظرة التقليدية في التربية والتي تستمد قواها من الدين والتقاليد والمقومات التاريخية الداعمة لها، وبين النظرة الإنسانية والشمولية التي ترى في الفرد "صاحب الحق" في التحكم في شخصه واحتياجاته، والتي تناقض عموماً توقعات المجتمع وواضعي السياسات التقليديين. رغم أن هذه النظرة الانسانية ترى أهمية انتماء ومساهمة الشخص لمجتمعه، ولكن بما هو خاص.

(كاسبي، 1979) يرى بأنه يجب على الجهاز التربوي والعاملين فيه رؤية القوة الكامنة في كل فرد والتي تعمل على حفزه، والعمل على إعطائها الفرصة للتعبير عن ذاتها. هذه النظرة تتطلب إفساح المجال للتلقائية والخصوصية لدى كل فرد، وذلك بهدف تعزيز الجانب الإيجابي في داخل كل منا.

يؤمن نيتشه بأن الشخص هو "سيد قدره"، ولذا فإن موقفه تجاه الجهاز التربوي التقليدي واضح جداً، فهو يرى بأن الجهاز التربوي الرسمي هو " سيد أقدار طلابه"، والذي يحطم التطور الفردي دون إعطاء أي فرصة للفرد في التعبير عن قدراته. حيث أن الجهاز مبني بشكل هرمي ومكون من ( أهداف وبرامج وما الى ذلك) كتبت جميعها على أيدي أشخاص أيديولوجيين، وقيمت على أيدى نفس الأشخاص. لقد عرف نيتشه هؤلاء الأشخاص كمن يقفون متجمدين مشلولين أمام الأيديولوجية والمسلمات خوفهم من الموت، والتي بدورها توجههم كيفما تريد هي. فعندما تتكلم الأيديولوجية تكون صاحبة الكلمة الأخيرة.

طبيعة الإنسان حسب نيتشه

في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" يؤمن نيتشه بأن الإنسان مخلوق حر بطبيعته، مسؤول عن قدره، يستطيع أخذ القرارات الملائمة له. إنه يرى في القوة الكامنة الإيجابية التي بداخل كل منا، الموجهة لنا، القوة "الحقيقية"التي يجب الاستماع لها بكل أحاسيسنا. إنه يرى بأن متطلبات " الأنا الأعلى" المتمثلة بالمسلمات إنما هي متطلبات لعينة وصعبة للغاية مثلها مثل متطلبات الأيديولوجية، ولذا فإننا إذا ما استمعنا إلى متطلبات أنفسنا فسوف تكون حياتنا مغايرة للتي هي عليه الآن، حياة ذات معنى.

هذه النظرة عن طبيعة الفرد كان لها عميق الأثر على الكثير من الأخصائيين النفسيين أمثال ( أدلر)، حيث أن هذه النظرة المتفائلة لطبيعة الإنسان تجعل الباب مفتوحاً على مصراعيه للتدخل التربوي المثمر. حيث يرى أدلر أيضاً بأن الإنسان الصحيح نفسياً يتطلع دائماً الى " المساهمة للمجتمع الذي يعيش فيه"  Social Interest. فكلما كان هذا التطلع متطوراً وكانت العلاقة التي تربط الفرد بمجتمعه جيدة، يكون الإنسان متوازناً نفسياً وصاحب مقدرة على المساهمة الفعالة في المجتمع الذي ينتمي إليه ( داريكورم، 94). نيتشة يوضح هذه النظرة فيقول بأن الإنسان ليس مهماً إن لم يساهم في تطوير مجتمعه، فمثل هذا الهدف يعتبر مركزياً في حد ذاته.

من هنا يمكن القول بأن شكل العلاقة بين الفرد ومجتمعه هو أمر جد بالأهمية. فكلما كانت العلاقة متوترة استدخل الفرد المجتمع كجسم عدائي يواجهه بالمحاربة أحياناً وبعدم القدرة على التكيف به أحياناً أخرى، فيرى المجتمع كإطار انتماء يخذله ويحطم امكانياته باستمرار ( داريكورم، 1994).

التربية حسب نيتشة

المعلم:

إن المعلم حسب شوبنهاور ونيتشة يجب أن يكون "حقيقياً"، حيث أن دوره في في تحرير الفرد من قيود المجتمع والمسلمات يتطلب منه أن يكون "حقيقياً". المعلم بحسب هذه النظرية يؤمن بأن هناك عوالم ومعتقدات غير واضحة وغير معلومة يسعى الى التعرف عليها. لا يرى نيتشة المعلم كصاحب الامتياز في الوساطة بين الطالب ومجتمعه، فهذا الموقع يحجم نقاط الاحتكاك التي يقيمها الطالب مع المجتمع الخارجي (تننباو، 1997).

لقد تأثر نيتشة كثيراً من شوبنهاور، حيث أنه رأى أن على كل معلم أن يفتش على "نموذج" للتشبه به، أو فيلسوفاً للتعلم منه. ولذا فإنه لا يرى أي أهمية للجامعة إذا لم يكن هناك أناساً يمكن التعلم والتأثر منهم.

العملية التعليمية

العملية التعليمية حسب نيتشة هي تحرير روح وعقل الأنسان من القيود التي تكبلهما. فما هدف العملية التعليمية الا اعطاء الفرصة للفرد (للطالب) أن يحقق ذاته "الحقيقية" وأن يسيطر على العالم الذي يحيط به.

إن هذه العملية -حسب نيتشة- ليست عملية إدراكية بحتة، وإنما عملية شعورية عقلية منعكسة في جميع مجالات الحياة.

لم ير نيتشه دور الطالب في استدخال قيم حتى لو كانت تلك القيم هي قيم المعلم الذي يقتاد به، بل بالعكس تماماً فهو يرى دور المطالب في التمرد على تعاليم المدرس، فنراه في كتابه (هكذا تكلم زرادشت) يشجع الفرد في التحرر من قيود المجتمع والتعاليم التي نشأ عليها، حتى أن التحرر بالنسبة لنيتشة ليس قيمة بحد ذاتها، وإنما هي وسيلة للخلق ولتكوين قيم جديدة.

من أجل خلق قيم جديدة يجب على الفرد الابتعاد عن القيم التي نشأ عليها وفحصها من جديد. فرغبة زاردشت في كتابه هي خلق طالب يكون (صديقاً ونداً) في ذات الوقت فنراه يقول "ليكن لديك صديقاً جيداً في عدوك، وليكن قلبك قريباً إليه حين تقف ضده". فالتأرجح وفحص القيم باستمرار هي الطريق الوحيد للتعرف على القيم الحقيقية، فالتأرجح يكون في اتجاهين: تأرجح نحو الخارج، أي نحو العالم الظاهر، وتأرجح نحو الداخل الى الذات البشرية. كذلك فإن هذا التأرجح له صورة محسوسة وصورة صورية مجردة. التأرجح يمكن أ ن يكون شعورياً ويمكن أن يكون عقلياً - حيث أن على الفرد أن يتعلم، أن يجرؤ، أن يتخيل وأن يعيد فحص المسلمات (كسبي، 1994).

لقد عرض نيتشة في كتابه موضوعات في التربية للثقافة( 1988) التطور الانساني للطالب في ثلاثة أطوار: 1. طور الجمل 2. طور الأسد 3. طور الطفل. في الطور الأول يكون الانسان كما الجمل يحمل نفسه أكثر من طاقتها من تقاليد ومسلمات ومسؤوليات ويستدخلها. أما في طور الأسد، فنراه يثور على الطور الأول بشجاعة وقوة، ساعياً الى تحرير نفسه. أما في طور الطفل يستطيع الفرد بسذاجة الطفل وطبيعيته أن يخلق لنفسه قيماً جديدة ليست كسابقتها، وإنماً قيماً مبنية على العفوية والاستقلالية، حيث أن الانسان في هذا الطور يكون صانع حياته.

نستطيع أن نرى أن النموذج الذي طرحه نيتشة في كتاباته هو عكس ما تقترحه التربية التقليدية، حيث أن التربية العادية تبدأ بطور الطفل وتنتهي بطور الجمل، حيث تهدف التنشئة التقليدية الى خلق انسان يتحمل أعباء الأمور ويتفهم ويستدخل مسلمات المجتمع والايديولوجية كمثل أعلى في نهاية العملية التربوية وكهدف لها.

بين التلقائية والبربرية

نستطيع القول بأن نيتشة يفتش عن الفرد المتميز والحقيقي لكي يقوم بتطويره ولكي يعطيه الفرصة للتسامي والتعالي عن كل ما يقيد ذاته. لربما يعتقد القارئ بأن نيتشة وروسو يرون طبيعة التطور الانساني ومفهوم التربية وأهدافها من نفس المنظار، ولكن الأمر عكس ذلك تماماً بالرغم من أن كلاهما يتحدث عن الطبيعية والتحرر.

إن روسو يرى أن على الفرد أن يتحرر من قيود المجتمع والتصدي لها والثورة على مقوماتها، حيث أن كثيراً من القيم الانسانية قد تختفي، فهو يطرح نموذج الفرد "البربري" كنموذج مثالي مقابل النموذج "الحضاري" الذي يجب على الفرد الثورة ضده. نيتشة في المقابل استطاع التعرف على (مرض مجتمعه) المتمثل بالصراع وعدم الاتزان بين الطبيعية والتحضر، ولذا فقد نراه يركز ثقله على التوجه الطبيعي ولكن مع الحفاظ على الانتماء للمجتمع والمساهمة فيه. بإختصار فإن نيتشة يحاول اقتراح بديل للفرد المتحضر ويساعده على التخلص من قيوده المفروضة عليه بحكم الايديولوجية والمجتمع، ولكن بنفس الوقت الحفاظ على عدم الوقوع الى وضع لا قيم فيه.  (تتنباوم، 1997).

تلخيص

يولي نيتشه أهمية كبيرة لدور المعلم والعملية التربوية، باعتباره وسيطاً بين الطالب والثقافة المجتمعية. كذلك نرى أنه يتطلع الى ذاتية الفرد وتفرده بسمات وقدرات وميول خاصة كمصدر للعمل الهادف الى تطوير المجتمع الذي ينتمى اليه.

وظيفة المعلم اليوم في الجهاز التعليمي لا تتوافق غالباً مع نظرة نيتشة لمفهوم العملية التعلمية والتعليمية، حيث أنه غالباً ما نرى أن المدرسة تعد من حين الى آخر علماء متخصصين في مجالات المعرفة المختلفة ولكنها لا تكون مساهماً بإعداد أفراد مفكرين أو قادة يحملون راية التغيير الثقافي النابع من رحلة قاموا بها في أعماق أعماقهم.

كاسبي (1979) تطرق الى قدرات وسمات يطورها الطفل منذ نشوءه، ومن هذه القدرات والسمات قدرته على أن يكون مسؤولاً من ناحية وجريئاً من الناحية الأخرى، أن يكون مؤمناً من ناحية وشكاكاً في كل ما يؤمن به من ناحية ثانية، ففي أحد كتبه على سبيل المثال "ضد المسيح" أوضح نيتشه الصراع بين الحقيقة المطلقة والحقيقة الذاتية، وأوضح بأن أموراً كثيرة قد نؤمن بها تكون وهماً حتى نفكر فيها مرة أخرى. إن المدرسة غالباً ما تحاول زرع القيم والمبادئ في رؤوس أطفالنا وهذا أمر جيد إذا ما توافق مع تعليمهم القدرة على التشكيك في الكثير من القيم والمبادئ التي يربون عليها بهدف تطوير قيم ثقافية أفضل.

فالتشكيك بالمسلمات ليس بالأمر السيء ولكنه يعطي فرصة للشخص لمواجهة الكثير من المعتقدات في عالم متغير الصور والوجوه.

أتذكر عندما تعلمنا في مدارسنا قال لنا المعلمين بأن المعتقدات ليست موضوع للتساؤل والاستفسار ولا حتى للشكوك، ولكن نيتشه يرى بدورنا كمدرسين بإعطاء الفرصة لإطلاق العنان للعقل البشري للتساؤل والستفسار لكي يشكل معتقداته، يغيرها أو يقويها.

وأخيراً فباعتقادي أنه من الصعب على المدرس تأصيل سمات وقدرات وطرق بديلة في التفكير والنقد لدى طلابه إن لم يكن هو نفسه قد مر في رحلة التفتيش هذه. حيث أن عملية التطور والتغير لدى المعلم تبدأ في مراحل مسبقة ويجب أن تلقى لها صدى في كليات التربية بحيث أن تكون عملية تأهيل المدرسين مغايرة لتلك القائمة اليوم. فمن وظيفة الكليات حسب رؤية نيتشة لدور المؤسسات التعليمية تطوير السمات والقدرات " الجيدة، المتفردة والخاصة) في كل معلم وليس تلقين العلوم المعرفية والأساليب التعليمية فقط